« كيف كان يتأتّى لك ذلك. فمن ذلك أنّه كان أكتب أهل عصره وأجمعهم لآلات الكتابة حفظا للغة والغريب وتوسّعا في النحو والعروض واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات وحفظا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام. وربّما تبرّم المتصفّح لأمور النّاس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه فيها 234 ما يناله به من مئونة ومشقّة. وهي من مراتب الدّولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرءوسة لصاحب السّيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال ويسمّى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللّام منقولا من لغة الإفرنجة فإنّه اسمها في اصطلاح لغتهم وإنّما اختصّت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنّهما جميعا على ضفّة البحر الرّوميّ من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبيّة بلاد البربر كلّهممن سبتة إلى الشّام وعلى عدوته الشّماليّة بلاد الأندلس والإفرنجة والصّقالبة والرّوم إلى بلاد الشّام أيضا ويسمّى البحر الرّوميّ والبحر الشّاميّ نسبة إلى أهل عدوته والسّاكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمّة من أمم البحار فقد كانت الرّوم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشّماليّة من هذا البحر الرّوميّ وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السّفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله ولمّا أسفّ 142 من أسفّ منهم إلى ملك العدوة الجنوبيّة مثل الرّوم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا 143 في الأساطيل وملكوها وتغلّبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنّة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة وكان صاحب قرطاجنّة من قبلهم يحارب صاحب رومة ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر السّاكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث ولمّا ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن صف لي البحر» فكتب إليه: «إنّ البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود» فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب إلّا من افتات على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزديّ سيّد بجيلة لمّا أغزاه عمّان فبلغه غزوة في البحر فأنكر عليه وعنّفه أنّه ركب البحر للغزو ولم يزل الشّأن ذلك حتّى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده والسّبب في ذلك أنّ العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه والرّوم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التّقلّب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدّارية بثقافته فلمّا استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرّب كلّ ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النّواتية في حاجاتهم البحريّة أمما وتكرّرت ممارستهم للبحر وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشئوا السّفن فيه والشّواني وشحنوا الأساطيل بالرّجال والسّلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصّوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشّام وإفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية باتّخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحريّة حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلّيّة أيّام زيادة الله الأوّل ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرّة أيضا في أيّامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلّيّة أيّام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديّين والأمويّين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السّواحل بالإفساد والتّخريب.
« أمّا بهذه السرعة وفي هذا الزمان فلا، ولكنا سنعود عنه ونحن كما كنّا وزيادة شيء، ويعود حسنويه وهو كما كان ونقصان شيء، ثم يدبر أمره على الأيّام. ثم استزاد فأنشده القصيدة الأخرى فأسقط فيها كما أسقط في الأولى واستدركه عليه أيضا. وكان رحمه الله لحسن عشرته وطهارة أخلاقه ونزاهة نفسه إذا دخل إليه أديب أو عالم متفرد بفن سكت له وأصغى إليه واستحسن كل ما يسمعه منه استحسان من لا يعرف منه إلّا قدر ما يفهم به ما يورد عليه حتى إذا طاوله وأتت الشهور والسنون على محاضرته واتفق له أن يسأله عن شيء أو يجرى بحضرته نبذ منه فرغب إليه في إتمامه، تدفق حينئذ بحره وجاش خاطره وبهت من كان عند نفسه أنّه بارع في ذلك الفن والمعنى وما أكثر من خجل عنده من المعجبين بأنفسهم ولكن بعد أن يمدّ لهم في الميدان ويرخى من أعنّتهم ويمسك عنهم مدة حتى ينفد ما عندهم ويجزل لهم العطاء عليه. ثم رأيت بحضرته جماعة ممن يتوسل إليه بضروب من الآداب والعلوم فما أحد منهم كان يمتنع من تعظيمه في ذلك الفن الذي قصده به واطلاق القول بأنّه لم ير مثله ولا ظنّ أنّه يخلق. وفيها: خرج عمرو بن الليث من نيسابور لبعض أشغاله فخلفه فيها رافع بن هرثمة ودعا على منابرها لمحمد بن زيد المطلبي ولولده من بعده، فرجع إليه عمرو وحاصره فيها، ولم يزل به حتى أخرجه منها وقتله على بابها.
« ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلّا هذا الصبى. » فقال: « وكأنّك تظنّ أنّى أتكلّف حفظ مثل هذا. ثم طلب الوزير ابن عطاء إلى منزله فجاء فجلس في صدر المجلس، فسأله عن قول الحلاج فقال: من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد. » قال: « لا أكلّف إعادتها بعد ذلك. » قال: « فكنت أنشدها مرّة أو مرتين وأسلمها ثم اشتغل بغيرها حتى أفرغ من الجميع في اليوم الواحد. فلامهم الموفق على مخالفته وعلى العجلة، وأجرى الأرزاق على ذرية من قتل منهم، فحسن ذلك عند الناس جدا. وكان يشقّ على سهلان بن مسافر لما في نفسه من حسنويه ولأنّه يحبّ الانتقام منه ويكره أن ينصرف مثل ذلك العسكر عنه ولم يؤثّر في أمره أثرا يسمع به وليّه وعدوّه إلّا أنّ أبا الفتح كان يرى أنّ مقاربة حسنويه والعود إلى صاحبه ببابه لم يثلم عسكره ولا خاطر بهم وأن يلحق مكانه من الوزارة قبل أن يطمع فيه أولى وأشبه بالصواب - وقد كان أبو عليّ محمد بن أحمد خليفة أبيه قد تمكن من ركن الدولة وقبل ذلك ما عرفه بالكفاية والسداد - فسفر المتوسطون بينه وبين حسنويه إلى أن تقرّر أمره على خمسين ألف دينار ينكسر بعضها وجبى كورة الجبل وجمع من الدواب والبغال وسائر التحف ما بلغ مقداره مائة ألف دينار ووردت عليه كتب ركن الدولة بما قوّى نفسه وشدّ منّته وأحمد جميع ما كان دبّره وأمر بالعود إلى الحضرة بالريّ.
« كنت أروّى ابني أبا القاسم القصائد الغريبة من دواوين القدماء لأنّ الأستاذ الرئيس كان يستنشده إذا رءاه وكان لا يخلو إذا أنشده من رد عليه في تصحيف أو لحن مما يذهب علينا. وفي سنة ثلاثين كان الغلاء ببغداد فبلغ كر الحنطة ثلاثمائة وستة عشر دينارا واشتد القحط وأكلوا الميتات وكان قحطا لم ير ببغداد مثله أبدا. » فما استقرّ بعسكر مكرم ثلاث ساعات من النهار حتى ورد كتاب ياقوت على درك - وكان والى الشرطة بعسكر مكرم - يعرّفه أنّ مونسا غلامه خرج بغير إذنه وشرح له صورته وسأله أن يجتمع معه ويخوّفه الله عز وجل ويحذّره كفر نعمته ويستوقفه إلى أن يلحق به. وكان الأستاذ الرئيس - رضي الله عنه - قليل الكلام نزر الحديث إلّا إذا سئل ووجد من يفهم عنه فإنّه حينئذ ينشط فيسمع منه ما لا يوجد عند غيره مع عبارة فصيحة وألفاظ متخيرة ومعان دقيقة لا يتحبس فيها ولا يتلعثم. قال: فضممت رجلي وقلت: وعزتك لا مددت رجلي أبدا.