لأنّه كالحائط الممتدّ والقصر المشيد لا يطمع في إزالته وفي التّنزيل «إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ 61: 4» أي يشدّ بعضهم بعضا بالثّبات وفي الحديث الكريم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثّبات وتحريم التّولّي في الزّحف فإنّ المقصود من الصّفّ في القتال حفظ النّظام كما قلناه فمن ولّى العدوّ ظهره فقد أخلّ بالمصافّ وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنّه جرّها على المسلمين وأمكن منهم عدوّهم فعظم الذّنب لعموم المفسدة وتعدّيها إلى الدّين بخرق سياجه فعدّ من الكبائر ويظهر من هذه الأدلّة أنّ قتال الزّحف أشدّ عند الشّارع وأمّا قتال الكرّ والفرّ فليس فيه من الشّدّة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزّحف إلّا أنّهم قد يتّخذون وراءهم في القتال مصافّا ثابتا يلجئون إليه في الكرّ والفرّ ويقوم لهم مقام قتال الزّحف كما نذكره بعد. وجاء أبو الحسين ابن دنحا إلى هبة الله ابن ناصر الدولة ليسلّم عليه ويهنّئه بعيد الفطر، وكان هبة الله راكبا فاستجرّ أبا الحسين ابن دنحا الحديث إلى إزاء صخر ثم رماه بخشت كان في يده فوقع في لبّته ومضى يركض يريد الهرب فلحقه هبة الله وإنّما فعل ذلك لغيرة لحقته من تعرض ابن دنحا لغلام من غلمانه.
وفيها خرج الحاجب سبكتكين إلى همذان مددا لركن الدولة فلمّا دخل قرميسين أسر من كان بها من أصحاب ابن قراتكين. وأصبح العميد من الغد فأظهر الكتب فلمّا عرضها على وشمكير كان قد صار عليّ بن بويه على مسافة بعيدة فمنع من لم يكن خرج من أولئك القوّاد. واستحضر القاهر عليّ بن عيسى وعرّفه أنه ليس لوزيره نظر في أعمال واسط وسقى الفرات وكانت في ضمان إسحاق وقلّده هذه الأعمال واعتمد في تدبير المعاون فيها عليه ووقّع له بخطّه فتقلّده عليّ بن عيسى. وفي هذه السنة لقّب أبو الحسن علي بن ركن الدولة: فخر الدولة، ولقب المرزبان بن بختيار: إعزاز الدولة، ولقب عمران بن شاهين: معين الدولة، ولقب محمد بن بقية: نصير الدولة، مضافا إلى لقبه الأول ولقب أبو الفتح ابن العميد: ذا الكفايتين وخلع على من حضر من هؤلاء من جهة أمير المؤمنين وأنفذت الخلع إلى من غاب. ولم يبق في نفس عضد الدولة شيء يتعلق به نفسه إلّا انتزاع البصرة من يد المرزبان.
كان ماكان مستقرّا بكرمان من قبل صاحب خراسان حتى بلغه قتل مرداويج فاجتمع عليه استئمان رجاله إلى عماد الدولة علي بن بويه ومجاورته إيّاه وطمعه في معاودة أعماله الأولى من جرجان وطبرستان. وكان عضد الدولة قد سار إلى العراق للإيقاع بالأتراك وخرج وزيره أبو القاسم المطهر بن عبد الله إلى عمان فلم يبق بفارس من العساكر إلّا شيء يسير فخلع طاهر بن الصمّة الطاعة وجمع إلى نفسه هؤلاء الرجالة بالاسلحة التامة واستكثر من عددهم. وانحدر أبو عبد الله الكوفي وعرضت الألقاب على المتقي لله فاختار منها هذا اللقب، وأخذت البيعة على الناس وأنفذ الخلعة واللواء إلى بجكم مع أبي العبّاس أحمد بن عبد الله الإصبهاني إلى واسط، فانحدر بها وخلع عليه وأخذ البيعة عليه للمتقي لله. فلمّا اجتمعوا ذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر، فتفرّق الناس عن هذا ذلك اليوم من غير تقرير لأمر. فلمّا كان اليوم الثاني دفع كتاب بجكم إلى كاتب فقام وقرأه على الناس وذكر إبراهيم. قال: «وإذا كان مولده كما زعم ابن العربيّ سنة ثلاث وثمانين وستّمائة فيكون عمره عند خروجه ستّا وعشرين سنة» قال وزعموا أنّ خروج الدّجّال يكون سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمّديّ وابتداء اليوم المحمّديّ عندهم من يوم وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى تمام ألف سنة» قال ابن أبيّ واصل في شرحه كتاب (خلع النّعلين) الوليّ المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمّد المهديّ وخاتم الأولياء وليس هو بنبيّ وإنّما هو وليّ ابتعثه روحه وحبيبه.
وليس يظنّ بك المذنب ولا غيره العجز ولا تعذّر القدرة. « اعلم أيّها الأمير بأنّك قد أصبحت وليس فوق يدك يد لمخلوق، وأنّه لا يتهيّأ لأحد منعك ممّا تريد ولا أن يحول بينك وبين ما تهواه أيّ وقت أردته، وأنّك متى أردت شيئا بلغته في أيّ وقت شئت، لا يفوتك منه شيء. فكتب إلى المقتدر بأنّه غنيّ عن هذا الإقطاع وأنّه قد وفّر ماله فإنّ أمر ضيعته قد صلح وكذلك وقفه بإعادته إيّاه إلى خدمته وأنّه يوفّر أيضا رزق الوزارة وهو مع ألفى دينار أجريت لابن الخصيبي سبعة آلاف دينار في كلّ شهر. « قد تبيّنت أن العدل أربح للسلطان بكثير وأنّه يحصّل له دنيا وآخرة وأنّ موادّ الظلم وإن كثرت وتعجّلت سريعة النفاد والفناء والانقطاع، وهو مع ذلك كأنّه لا يبارك فيها وتحدث حوادث يتحرّمها ثم يعود بخراب الدنيا وفساد الآخرة. فقلت له: « وبالضد، فإنّ موادّ العدل تنمى وتزيد وتدوم ويبارك فيها عند ابتداء العمل به. فقال: كم سعر متر الألمنيوم سبحان الله أنا كنت بمصر أنفق فيها في كل سنة عشرين درهما فرأيت إذا لم يحصل لي شيء من هذا المال لا يتهيأ لي في السنة عشرون درهما.